فصل: الآية الثامنة منها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الآية الثامنة منها:

قوله عز وجل: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا} الأنعام: 70.
وقال في سورة الأعراف 50- 51: {قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا}.
وقال في سورة العنكبوت 64 {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهم ولعب} فقدم اللهو على اللعبفي هاتين الآيتين.
وجاء في سورة الحديد20: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة} فقدم اللعب هنا على اللهو كما قدمه في سورة الأنعام.
للسائل أن يسأل فيقول: إذ كانت الواو للجمع بين الشيئين والأشياء بلا ترتيب، فهل لتقديم أحد الاسمين على الآخر في موضع دون موضع، وتقديم الآخر عليه في غير ذلك الموضع فائدة تخصه أم كان جائزا في كل مكان تقديم أيهما شاء المتكلم لا لغرض يخصه؟
فالجواب أن يقال: إن الآية الأولى التي في سورة الأنعام في قوم من الكفار، كانوا إذا سمعوا آيات الله هزلوا عندها واستهزأوا بها، فهذا اتخاذهم دين الله لعبا، وهو كما قال في آية أخرى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر ويستهزأ بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} النساء: 140.
وقوله عز وجل: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا} كقوله: {فلا تقعدوا معهم} النساء 140 فهؤلاء قوم حضروا النبي وسمعوا القرآن، وعبثوا عند سماعه ولعبوا بآياته، وأجروها مجرى أفعال يستروح إليها، ولا نفع في عقباها، ثم شغلوا بدنياهم عن تدبرها وألهتهم حلاوتها عن الفكر في صحتها، فأول أفعالهم لعب، وثانيها لهو، واللعب فعل في غاية الجهل تتعجل منه مسرة واللهو قال فيه صاحب العين: ما شغل الإنسان من هوى وطرب.
فهؤلاء لما فعلوا عند سماع القرآن من الاستهزاء والعبث أطلق على فعلهم اسم اللعب، ثم شغلوا عنه باستحلاء الدنيا كان هذا لهوا منهم بعد اللعب وكان أول دينهم لعبا وما بعده لهوا، فلذلك قدم لعب على لهو في هذه الآية.
وأما قوله في سورة الأعراف: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا} الأعراف: 50- 51، وتقديم اللهو على اللعب في هذه الآية فلأن الكافرين هنا لعامة الكفار، غير مختص بمن سمع الآيات، فقدم فعل أكثرهم على فعل أقلهم، وهم الذين شغلتهم الحياة الدنيا وحلاوتها، والولاية وغباوتها، واستحلاء ما مرنت عليه طباعها، وهذا هو اللهو.
ثم كانت أفعالهم التي اقتدوا فيها بآبائهم لما طابت لهم ولم يجدوا في العاقبة نفعا عليهم كاللعب الذي ينطوي على أفعال تبطل في الآجل وإن سرت في العاجل، وهذا بعد الأول.
وأكثر الكفار دأبهم اللهو وإن شغلتهم الحال التي استصحبوها عن الفكر فيما يطرأ عليها فوجب لهذا تقديم ذكر اللهو لوجهين: لتقدمه على ما هو كالعب ولأنه أكثرهم. واللعب الذي أريد به في الآية الأولى فعل أقلهم وهو هناك أول ما رد به ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله تعالى في سورة الحديد: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد}، وتقديم اللعب فيع على اللهو فلأن معناه: الحياة الدنيا لمن اشتغل بها ولم يتعب لغيرها من أعمال الآخرة مقسومة من الصبا، وهو وقت اللعب، وبعده اللهو، وهو الترويح عن النفس بملاعبة النساء ويتبع ذلك أخذ الزينة لهن ولغيرهم، ومن أخذ الزينة تنشأ مباهاة الأكفاء ومفاخرة الأشكال والنظراء، ثم بعده المكاثرة بالأموال والأولاد، فترتيب الحياة على هذه الأحوال يوجب تقديم حال اللعب على حال اللهو.
واللهو إذا أطلق في كلامهم فهو اجتلاب المسرة بمخالطة النساء، ولذلك قال امرؤ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم انني ** كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي

وقال الآخر:
لهونا بمنجول البراقع حقبة ** فما بال دهر لزنا بالوصاوص

وقيل في قوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} الأنبياء: 16- 17.
قيل في تفسير الهو: المرأة، وقال قتادة: اللهو بلغة أهل اليمن: المرأة أي: لفعلناه من حيث يختص بعلمنا، فلا يطلع عليه غيرنا، تعالى الله عن الصاحبة والولد، فعلى هذا سميت المرأة لهوا باسم الفعل لكثرة ما يقع ذلك بها.
وأما قوله تعالى في سورة العنكبوت 64: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وغن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}، فليس المراد به أن الحياة الدنيا كلها لهو ولعب، وليست شيئا غيرها، لقوله: ما هي إلا هما، لأنه لو كان المراد هذا لكان لقائل أن يقول: ما هذه الحياة الدنيا إلا خوف وحزن، فالخوف اضطراب القلب لتوقع مكروه، والحزن ألمه لفقد محبوب ثم إن هذه الحياة تنطوي على أنواع من عبادة الله تعالى وعلى تلاوة كتابة، وعلى ما يكسب رضي الله عز وجل، ويوجب ثوابه الدائم، فكيف يقال فيما يتضمن كل هذه الخيرات: ليس هو إلا لهوا ولعبا، بل المراد: المبالغة في وصف قصر مدة الدنيا بالإضافة إلى مدة الأخرى، فكأنه قال: ما أمد الحياة الدنيا إلا كأمد أزمنة اللهو واللعب، فهي أزمنة لشغل النفس بحلاوة ما يتعجل كما قال القائل:
شهور ينقضين وما شعرنا ** بأنصاف لهن ولا سرار

وقال آخر:
وليلة إحدى الليالي الزهر ** لم تك غير شفق وفجر

والدليل على أن المراد هذا ذكرت قبل، وما ذكروه الله تعالى بعد من قوله عز وجل: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} العنكبوت: 64 أي: أن حياتها تبقى أبدا، ولا تعزب أمدا. وإنما قدم الله على اللعب هنا، لأن الأزمنة التي يقصرها الله أكثر من الأزمنة التي يقصرها اللعب، لأن التشاغل به أكثر.
فلما كان معظم ما يستقصر وجب تقديم ما يكثر على ما هو دونه في الكثرة، لأن ذلك آخذ بالشبه، وأبلغ في وصف المشبه، ولا خلاف أن الناس أزمنة المشغولة باللهو أكثر من أزمنتهم المشغولة باللعب، وإن طيبها لهم يخيل قصرها إليهم، ويتفاوت طيبها على حسب تفاوت ميل النفس إلى محبوبها.
فمعظم ما يرى الزمان الطويل قصيرا زمان اللهو بالنساء، وهو الذي نشأت منه فتنة الرجال وهلاك أهل الحب فهذا الكلام في هذه الآي والسلام.

.الآية التاسعة منها:

قوله تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي} الأنعام: 95.
وقال في سور أخر قبلها وبعدها: {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} الروم: 19.
للسائل أن يسأل فيقول: لم عطف الاسم على لفظ الفعل ولم يعطف عليه لفظ الفعل، كما قال في السور الأخر؟ وإذا عطف عليه بلفظ الاسم وهو {مخرج الميت من الحي}، هلا ذكر اللفظ الأول بالاسم فيقول: مخرج الحي من الميت، فما الفائدة في ذلك؟ وما الفرق بينها وبين الآي الأخر؟
والجواب أن يقال: إن أول هذه الآية ذكر بلفظ الاسم وهو {فالق الحب والنوى} فكان اللائق به أن يقال: ومخرج الحي من الميت ولكنه لما اجتمع ثلاثة حروف من حروف العلة دفعة واحدة، وهي: الواو من النوى والياء من النوى والواو من مخرج وهي واو العطف، ونقل عن لفظ الاسم إلى لفظ الفعل لما كان يخرج ومخرج بمعنى واحد، فقال: {يخرج الحي من الميت} فجعل الجملة وهي: {يخرج الحي من الميت} خبر الابتداء، كما تقول: إن زيدا ضارب عمرو يكرم بكرا، ومكرم جعفرا، فهذا أفصح من أن تقول: إن زيدا ضارب عمرو، ومكرم بكر، ومكرم جعفر، فلهذا المعنى قال: {يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي}.
فلما انتهى إلى العاطف من قرينه لم تكن فيه تلك العلة التي كانت في المعطوف عليه فأجري على ما أجري عليه اول الآيى، وهو: {فالق الحب} وما بعده: {فالق الاصباح وجعل الليل ساكنا} الأنعام: 96، وعاد إلى لفظ الاسم وهو: {ومخرج الميت من الحي}، وعطفه على {فالق الحب}، وليس في الآي الأخر ما في هذه الآية قبلها وبعدها من الاسمية، فذكر فيها على لفظ الفعل عاطفها ومعطوفها فبان الفرق بينهما على ما بينت. والله أعلم.

.الآية العاشرة منها:

قوله تعالى: {قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون} الأنعام: 97.
والآية الثانية بعدها: {قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} الأنعام: 98.
والآية الثالثة: {إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} الأنعام: 99.
للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي أوجب في اختيار الكلام أن يقال في الأولى يعلمون وفي الثانية يفقهون وفي الثالثة يؤمنون؟ وهل صلح بعض ذلك مكان بعض أم في كل معنى يخض اللفظ الذي جاء عليه؟.
فالجواب أن يقال: إن قوله تعالى: {قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون} جاء بعد آيات نبهت على معرفة الله تعالى، وهي من قوله تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى} إلى قوله: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} الأنعام: 95- 97 فكان جميع ذلك دالا على العلم بالله تعالى وبوحدانيته، وهو أشرف معلوم.
ولا لفظ من ألفاظ يعلمون ويعقلون ويفقهون ويشعرون إلا ولفظة يعلمون أعلى منه، ولذلك صحت في الخبر عن الله تعالى ولميصح فيه غيرها من الألفاظ التي ذكرت فلما كان المعلوم أشرف المعلوم المعلومات عبر عن الآيات التي نصبت للدلالة عليه باللفظ الأشرف.
وأما ما استعمل في {يفقهون} فهو بعد قوله: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع} الأنعام: 98 فأخبر عن ابتدائه الإنسان وإنشائه إياه، ثم نبهه بما أراه من تنقله من حال إلى حال، من عدم إلى وجود، ومن مكان إلى مكان، ومن صلب إلى رحب، ومن بطن أم إلى وجه الأرض، ومن وجه الأرض إلى بطنها، على أنه كما نقل من موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت، كذلك ينقل من الموت إلى الحياة، ومن القبر إلى المحشر، ومنه إلى إحدى الدارين، لأن الاستيداع في الدنيا، والمستقر في العقبى كما نقل في التفاسير فنطقت تلك الأحوال الحادثة لمن يفهمها ويفطن لها، ويستدل بمشاهدها على مغيبها أن بعد الموت بعثا وحشرا وثوابا وعقابا، وهذا مما يفطن له، فـ {يفقهون} أولى به.
وأما قوله تعالى: {إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} الأنعام: 99، بعد ما عد نعمه على خلقه، وما وسعه من رزقه من الحب المعد للأقوات، ومن ضروب الأشجار وصنوف الثمار، وكان هذا مستدعيا للإيمان، المشتمل على شكر نعمته، والقيام بما فرض من طاعته، وأوجب من عبادته، كانت الآيات في ذلك معرضة لمن آمن بالله، فلذلك قال في الأخير، إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون، والله أعلم.

.الآية الحادية عشر منها:

قوله تعالى: {ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل} الأنعام: 102.
وقال في سورة المؤمن 62: {ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون}.
للسائل أن يسأل فيقول: لماذا قدم في سورة الأنعام {لا إله إلا هو} على قوله: {خالق كل شيء}، وقدم في سورة المؤمن،: {خالق كل شيء}، على قوله تعالى: {لا إله إلا هو}؟
والجواب أن يقال: لأن ما في هذه السورة جاء بعد قوله تعالى: {وجعلوا الله شركاء الجن وخلقكم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم} الأنعام: 100، فلما قال: {ذلكم الله ربكم}، أتى بعده بما يدفع قول من جعل لله شريكا، فقال: {لا إله إلا هو}، ثم قال: {خالق كل شيء}.
وفي سورة المؤمن جاء هذا بعد قوله تعالى: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون} غافر: 57 فكان الكلام على تثبيت خلق الإنسان، لا على نفي الشريك عنه هنا، كما كان في الآية الأولى فكان تقديم خالق كل شيء هاهنا أولى. والله أعلم.

.الآية الثانية عشرة منها:

قوله تعالى: {ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} الأنعام: 112، وقال بعده: {ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون} الأنعام: 137.
للسائل أن يسأل فيقول: كيف قال: {وقال ربك}، في الأولى، وفي الثانية {ولو شاء الله}؟ وهل في المكانين ما يوجب اختلاف الاسمين؟
والجواب أن يقال: إن الأولى قبلها: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} الأنعام: 112، أي: كا للأنبياء قبلك من قبل العدو من الإنس والجن، ولو شاء من رباك وربك وقام بمصالحك لألجأهم إلى موافقتك وترك مخالفتك، كان من يقوم بتربيتك يحجزهم عم مضرتك، وأن يظفروا بمرادهم من عداوتك فقد تضمن قوله ربك هذا المعنى.
وقوله في الآية الأخرى: {ولو شاء الله ما فعلوه} جاء بعد قوله تعالى: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا} الأنعام: 136، فأخبر أنهم أقاموا لله الذي يحق إفراده بالعبادة شركاء ولو شاء الله أي: ولو شاء من نعمته عليهم نعمة توجب التأله إلا يعبدوا سواه ما تمكنوا من فعله، فهذا موضع لم يلق به إلا الاسم الذي يفيد معنى فيه حجة عليهم دون غيره من الأسماء فأفاد كل اسم من الاسمين في مكانه ما لم يكن ليستفاد بغيره. والله أعلم.